بقلم: ميار مزيد
تواجه النساء والفتيات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تمييزا ممنهجا على أساس الجنس،يمتد عبر المجالين العام والخاص، يلازمهن منذ الطفولة وحتى مراحل العمر المتقدمة. وفي مصر تحديدًا، يبدو هذا التمييز واضحًا في بنية النصوص القانونية، ولا سيما قوانين الأحوال الشخصية وبعض مواد قانون العقوبات؛ فبالرغم من الالتزامات الدولية التي وقعت عليها مصر، لا تزال العديد من التشريعات قائمة ضمن أطر تُقيد حق النساء في المساواة الكاملة في المواطنة.
بلغ إجمالي عدد جرائم العنف التي وقعت ضد النساء والفتيات من قبل أحد أفراد الأسرة 540 جريمة خلال العام الماضي 2024، أما خلال النصف الأول من العام الحالي 2025، جاءت جرائم القتل التي وقعت على يد أحد أفراد العائلة أو شريك حالي/سابق في المرتبة الأولى في جرائم العنف المرتكبة ضد النساء والفتيات بواقع 120 جريمة، وفقا لمرصد جرائم العنف الموجه ضد النساء والفتيات الصادر عن مؤسسة إدراك للتنمية والمساواة، وذلك بالإضافة إلى 24 واقعة شروع في قتل (محاولة لم تنجح) و21 واقعة ضرب مبرح.
والمرعب عند البحث في أسباب تصاعد العنف ضد النساء في مصر، حين يتبيّن أن القانون الذي من المفترض أن يوفر لهن الحماية يشكّل في حدّ ذاته أحد أبرز تلك الأسباب. فالمشكلة لا تقتصر على القصور التشريعي فحسب، بل تمتد إلى ضعف بعض النصوص وعدم قدرتها على الإحاطة بجميع أنماط العنف، كما يظهر بوضوح في تعريف جريمة الاغتصاب الوارد في المادة 267 من قانون العقوبات، الذي لا يزال عاجزًا عن استيعاب مختلف صوره.
بل إن مواد الرأفة في قانون العقوبات كثيرًا ما تُستغل لصالح الجناة من الرجال في جرائم القتل التي تقع تحت ما يُسمى بـ”جرائم الشرف”. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، المادة 60 التي تنص على أن “أحكام قانون العقوبات لا تسري على كل فعل ارتُكب بنية سليمة عملًا بحق مقرر بمقتضى الشريعة”. إذ يُفترض في بعض الحالات سلامة نية القاتل استنادًا إلى هذا النص، ما يؤدي إلى إعادة توصيف جريمة القتل لتصبح “ضربًا أفضى إلى الموت”، وينتج عن ذلك تلقائيًا صدور حكم أخف عقوبة.
فتتعرض النساء لسلسلة متتابعة من الظلم تبدأ عند تعرضهن للعنف ذاته، ثم يتكرر ظلمهن حين يُواجهن باللوم من محيطهن، وكأنهن الجانيات بدلًا من الاعتراف بهن بوصفهن ضحايا يستحقن الدعم. ويبلغ الظلم ذروته عندما يفلت الجاني من العقاب نتيجة الاستخدام الممنهج لنصوص قانونية تتيح له تبرير دوافعه وممارساته المعادية للنساء. ويتسع نطاق هذا النمط في سياق جرائم العنف الأسري، حيث تُستخدم فكرة “حق الزوج في تأديب زوجته” لتبرير الاعتداء، مستندة إلى تفسيرات قانونية ودينية، وإلى منظومة من العادات والتقاليد والثقافة التمييزية التي تضفي شرعية زائفة على ممارسات العنف ضد النساء.
غير أن مجرد إطلاق وصف “جرائم الشرف” على أفعال العنف الموجه ضد النساء على يد الشريك الحميم أو أحد أفراد الأسرة، والتي قد تصل حد القتل، يُعد في حد ذاته تبريرًا ضمنيا لها. فهذه التسمية تمنح هذا النوع من الجرائم غطاءً من الشرعية وتوفّر له مبررات اجتماعية وثقافية متعددة.
ولا يقتصر التعامل مع جرائم العنف ضد النساء المرتكبة داخل نطاق الأسرة على نظرة المجتمع إليها كـ”أسرار بيوت”، بل يمتد ذلك ليشمل المشرّع والقاضي الذين قد يتعاملان معها في أغلب الأحيان بوصفها خلافات عائلية ينبغي أن يكون تدخل القانون فيها محدودًا حفاظًا على “سمعة العائلة”. وحتى في الحالات التي تصل إلى القتل، يُبحث في أحيان كثيرة عن مخرج قانوني يخفف عقوبة الجاني، كما في إحدى القضايا المركبة التي نُشرت العام الماضي، حيث حُكم على الشاب المغتصِب بالسجن المشدد عشر سنوات، بينما اكتفى القضاء بالحكم على الأب الذي قتل ابنته بدعوى الدفاع عن “الشرف” بعد تعرضها للاغتصاب، بالسجن المشدد ثلاث سنوات فقط!
وبالرغم من خلو النصوص القانونية من لفظ “جرائم الشرف” إلا أن هذا المفهوم يُؤخذ عمليًا في الاعتبار عندما تكون ضحية القتل امرأة ويكون الجاني زوجها أو شقيقها أو والدها. ويزداد الأمر وضوحًا عندما يُدلي الجناة بأقوالهم بكل فجاجة، مؤكدين: “قتلتها عشان ادافع عن شرفي”، ليُستخدم هذا الادعاء كعامل مؤثر في تقدير الجريمة وعقوبتها
وعند تحليل المشهد اجتماعيًا، يتضح أن الثقافة التمييزية المعادية للنساء والفتيات لا تسيطر فقط على أفكار وممارسات أسر الضحايا، بل تمتد أيضًا إلى عقل المشرع نفسه، فهو جزءا من هذا النسيج المجتمعي. الذي قد تحجبه ثقافة مجتمعه عن رؤية تلك الأفعال بوصفها جرائم عنف قائم على النوع الاجتماعي، وتفصله عن حقيقة أنها جرائم يجب أن تُعامل قانونيًا بالقدر ذاته من الجدية المتعامل بها مع الجرائم المماثلة. ويتجلى ذلك بوضوح في جرائم قتل النساء المصنفة تحت ما يُعرف بـ”جرائم الشرف”، حيث ينعكس هذا الإرث الثقافي على تفسير الجريمة وتقدير عقوبتها والتي بالضرورة لا تتشابه مع جرائم القتل الأخرى في شدتها وفقا لمعاييره.
وفي سياق ديناميكيات العلاقات داخل الأسرة، تؤدي الأدوار الجندرية النمطية واختلال ميزان القوى إلى ترسيخ توقعات تُلزم النساء بالخضوع لسلطة الذكور. فالفتاة يُنتظر منها الطاعة لأبيها وأخيها، وبعد الزواج تنتقل سلطة الخضوع إلى الزوج. وإذا خالفت المرأة هذا العُرف، فإنها تُعرض نفسها لعنف نفسي أو جسدي يُنظر إليه كعقاب أو “تأديب” مستحق من الأب أو الأخ أو الزوج، وفق ما تبرره تلك الثقافة. ويتجسد هذا التصور بوضوح في المثل الشعبي المتداول حتى اليوم: “اكسر للبنت ضلع يطلعلها 24”.
وفي المقابل، يُتوقع من الرجال أن يمارسوا السيطرة والتسلط والوصاية الأبوية داخل الأسرة وخارجها، ومن يحيد عن هذا الدور يُعد في نظر المجتمع متنازلًا عن “رجولته”، ما يعزز استمرار هذه السلوكيات ويُكرّس منظومة العنف المبني على النوع الاجتماعي.
ووفقا لنفس الثقافة، تخضع أجساد النساء منذ الصغر لأملاك ذكور العائلة، فيعتقد الآباء والأعمام والأخوال والأجداد أن من حقهم تشويه الأعضاء التناسلية لطفلاتهن بما يعرف ب “الختان”، وعندما تكبر الطفلة قليلا يُنظر لجسدها باعتباره أداة يمكنها أن تطيح بسمعة العائلة أو ترفع من شإنها مما يوجب تزويجها في أسرع وقت خوفا من جنسانيتها، ويعتقد الأزواج أن أجساد زوجاتهن يجب أن تكون متاحة ومهيئة لهم دائما لإشباع رغباتهم الجنسية وإن لم يرغبن في ذلك، وحتى خلال المشاجرات يُستخدم ذِكر الأعضاء التناسلية للنساء كوسيلة لإهانة وتحقير الآخر! كما تُستغل أجساد النساء أحيانًا في النزاعات المسلحة كأداة حرب لإلحاق الوصمة بشعب معين.
تساهم هذه الأنماط الفكرية السائدة في مختلف المجالات في إنتاج المزيد من العنف، إذ تُربط أجساد النساء باستحقاق الرجال للسيطرة عليها، ويرتبط تقييم أي سلوك تقوم به المرأة بمفهوم المجتمع عن الرجولة ومدى تأثيره عليها. وينتج عن هذا في كثير من الأحيان ارتكاب جرائم القتل تحت ذرائع مثل الشك في السلوك أو ما يُعرف بـ”جرائم الشرف”.
ويثير هذا التساؤلات: هل الرجولة في مجتمعاتنا العربية هشة إلى هذا الحد، بحيث تتأثر بسلوكيات شخص آخر؟ كما يصف علماء النفس هذه الظاهرة بأنها “رجولة هشة”، إذ يبدو أن بعض الرجال يحتاجون إلى تأكيدات مستمرة من المجتمع لتثبيت شعورهم برجولتهم.
قد يُنظر إلى هذه الظاهرة من قبل الكثيرين على أنها شكل من أشكال “الذعر الأخلاقي”، وهو رد فعل جماعي مبالغ فيه تجاه تهديد يُعتقد أنه يهدد النسيج الأخلاقي للمجتمع، وقد يكون هذا التهديد مختلقًا بالكامل. وفي هذه الحالة، تُستهدف الفئة الاجتماعية المتمثلة في النساء والفتيات، وبالأخص النسويات والمدافعات/ين عن حقوق النساء، أو أي شخص يسعى لتحقيق العدالة القانونية للنساء.
لكن المشكلة لا تكمن في وجود تهديد حقيقي للنسيج الأخلاقي، بل في رفض المجتمع قبول فكرة مساءلة الرجال عن ممارساتهم المعادية للنساء وتحميلهم المسؤولية القانونية والأخلاقية، والاعتراف بجرائمهم، بدلاً من التعاطف معهم أو البحث عن مبررات لأفعالهم. كما يتضح أن هناك ميلًا إلى لوم الضحية بدلًا من الجاني لمجرد اختلاف الجنس البيولوجي بينهم!
على الرغم من أن العلم يُنظر إليه تقليديًا على أنه نور يُجلو البصر والبصيرة وينير العقل، ويساعد الفرد على إعادة تشكيل ثقافته ومعتقداته، إلا أنه لا يضمن بالضرورة أن يصبح الإنسان أكثر أخلاقًا. فمثلاً، يعمل كريم (زوج الضحية آية عادل، المعروفة إعلاميًا بـ”فتاة الأردن”، والمتهم سابقًا بقتلها ثم تبرئته لعدم كفاية الأدلة) كمدير تنفيذي لمركز الإسكوا (ESCWA) للتكنولوجيا التابع لمنظمة الأمم المتحدة في الأردن. وقد قاد أكثر من 70 مشروعًا في مجالات التكنولوجيا والتنمية المستدامة، وامتد مساره الأكاديمي بين مصر وألمانيا والسعودية وسويسرا، وفق ما ذكرت “سيدات مصر”.
فلماذا نمنح الرجال دائما فرصة للهروب من تحمل مسؤولية أفعالهم؟ لماذا يصعب علينا استيعاب أن الضحية غير مسؤولة عن العنف الذي يقع عليها؟ ولماذا نستمر في تحميل النساء والفتيات مسؤولية العنف الذي يقع عليهن حتى وإن وصل الأمر لإزهاق أرواحهن لا يقف اللوم، بل يستمر حتى بعد أن يفارقونا؟!
في هذه المرحلة الحرجة التي وصلنا إليها، وبفضل الإنترنت، أصبحت جرائم التمييز بين الرجل والمرأة واضحة بشكل لا يمكن تجاهله. فالتعليم أو التدين لا يضمنان بالضرورة العدالة أو السلوك الأخلاقي كما يُعتقد، ولا ينبغي ترك تقدير حجم العنف ضد النساء للمنظومة الأخلاقية لأفراد المجتمع. بل يجب أن يكون القانون رادعًا بما يكفي، مستقلًا عن الثقافات التمييزية، ليضمن حماية النساء على نحو فعّال.
هذا الواقع يبرز الحاجة الملحة لإعادة النظر في النصوص القانونية من منظور نسوي عادل، يحقق المساواة بين النساء والرجال أمام القانون بغض النظر عن النوع البيولوجي. ومن الأمثلة على ذلك مشروع القانون الموحد لمناهضة العنف الموجه ضد النساء، الذي يسعى على سبيل المثال لا الحصر إلى الاعتراف بمفهوم العنف القائم على أساس النوع، والعنف الأسري، ومعاملتهما كجرائم ذات خصوصية وأبعاد متشابكة، لضمان حماية متكاملة للنساء والفتيات.